سورة الأعراف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}
اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {أَمَرَ رَبّي بالقسط} يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه عائدة إليه في ذاته، ثم إنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه، وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه، وجوابه ما سبق ذكره.
المسألة الثانية: قال عَطاء، والسُّدّي {بالقسط} بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً.
وقال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله والدليل عليه قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله. فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء. أولها: أنه أمر بالقسط، وهو قول: لا إله إلا الله. وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له.
وثانيها: أنه أمر بالصلاة وهو قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه لقائل أن يقول: {أَمَرَ رَبّي بالقسط} خبر وقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. وجوابه التقدير: قل أمر ربي بالقسط. وقل: أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين.
البحث الثاني: في الآية قولان:
أحدهما: المُراد بقوله: {أَقِيمُواْ} هو استقبال القبلة.
والثاني: أن المراد هو الإخلاص، والسبب في ذكر هذين القولين، أن إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة، وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة، والأقرب هو الأول، لأن الإخلاص مذكور من بعد، ولو حملناه على معنى الإخلاص، صار كأنه قال: وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين، وذلك لا يستقيم.
فإن قيل: يستقيم ذلك، إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط.
قلنا: لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً، لم يجز قصره على أحدهما، خصوصاً مع قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فإنه يعم كل ما يسمى ديناً.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول، لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة، فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن، بل نعتبر القبلة، فكان المعنى: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس: المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم، لاأصلي إلا في مسجد قومي.
ولقائل أن يقول: حمل لفظ الآية على هذا بعيد، لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد، ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد.
وأما قوله: {وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة، أمر بعده بالدعاء، والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة، وسماها دعاء، لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع الإخلاص، ونطيره قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] ثم قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وفيه قولان:
القول الأول: قال ابن عباس: {كَمَا بَدَأَكُمْ} خلقكم مؤمناً أو كافراً {تَعُودُونَ} فبعث المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً، فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة، أعمله بعمل أهل الشقاوة، وكانت عاقبته الشقاوة، وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة، وكانت عاقبته السعادة.
والقول الثاني: قال الحسن ومجاهد: {كَمَا بَدَأَكُمْ} خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون أحياء، فالقائلون بالقول الأول: احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} وهذا يجري مجرى التفسير لقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وذلك يوجب ما قلناه.
قال القاضي: هذا القول باطل، لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين، لأنه لابد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف، لأن جوابه أن يقال: كما بدأكم بالإيمان، والكفر، والسعادة، والشقاوة، فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة.
واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة القسط وهي كلمة لا إله إلا الله، ثم أمر بالصلاة ثانياً، ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال، إنما تظهر في الدار الآخرة، ونظيره قوله تعالى في طه لموسى عليه السلام: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى وَأَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 14، 15].
ثم قال تعالى: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} وفيه بحثان:
البحث الأول: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى.
قالت المعتزلة: المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب، وفريقاً حق عليهم الضلالة، أي العذاب والصرف عن طريق الثواب.
قال القاضي: لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم، إذ العبد لا يستحق، لأن يضل عن الدين، إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين، كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة، وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين:
الأول: أن قوله: {فَرِيقًا هدى} إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل، ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة، كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة، لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى.
والثاني: نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك، إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره، وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً، والكذب على الله محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً، وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه. والله أعلم.
البحث الثاني: انتصاب قوله: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} بفعل يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة، ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة، هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم، بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء. فنقول: عندنا مجموع القدرة، والداعي يوجب الفعل، والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل، هي: أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله.
ثم قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} قال ابن عباس: يريد ما بين لهم عمرو بن لحي، وهذا بعيد، بل هو محمول على عمومه، فكل من شرع في باطل، فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً، أو لم يحسب ذلك، وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لابد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم، وإلا لما ذمهم بذلك، والله أعلم.


{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى، وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب، لا جرم أتبعه بذكرهما، وأيضاً لما أمر بإقامة الصلاة في قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وكان ستر العورة شرطاً لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُراة الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة.
وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها، لتستتر به عن الحمس، وهم قريش، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانوا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا.
المسألة الثانية: المراد من الزينة لبس الثياب، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يعني الثياب، وأيضاً فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة، وأيضاً أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يوارى سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة، ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة، وأيضاً فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هاهنا لبس الثوب الذي يستر العورة، وأيضاً فقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة، وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: إنه تعالى عطف عليه قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر إباحة أيضاً.
وجوابه: أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه، وأيضاً فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الحكم.
السؤال الثاني: أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري.
والجواب: أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة. ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء، إجماعاً، فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ، وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة، وجب أن تفسد الصلاة عند تركه، لأن تركه يوجب ترك المأمور به، وترك المأمور به معصية، والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول.
المسألة الثالثة: تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد. فقالوا: أمرنا بالصلاة في قوله: {أَقِيمُواْ الصلاة} [الأنعام: 72] والصلاة عبارة عن الدعاء، وقد أتى بها، والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة، فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة، إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملاً بقوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة، فوجب أن يكون كافياً في صحة الصلاة.
وجوابنا: أن الألف واللام في قوله: {أَقِيمُواْ الصلاة} ينصرفان إلى المعهود السابق، وذلك هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد؟ والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا} فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل، وكانوا لا يأكلون الدسم، يعظمون بذلك حجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة.
والقول الثاني: أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لفساد قولهم في هذا الباب.
واعلم أن قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} مطلق يتناول الأوقات والأحوال، ويتناول جميع المطعومات والمشروبات، فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات، وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل، والعقل أيضاً مؤكد له، لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة.
وأما قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} ففيه قولان:
القول الأول: أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه.
والقول الثاني: وهو قول أبي بكر الأصم: أن المراد من الإسراف، قولهم بتحريم البحيرة والسائبة، فإنهم أخرجوها عن ملكهم، وتركوا الانتفاع بها، وأيضاً أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضاً أشياء أحلها الله تعالى لهم، وذلك إسراف.
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار، مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} وهذا نهاية التهديد، لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروماً عن الثواب، لأن معنى محبة الله تعالى العبد إيصاله الثواب إليه، فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب، ومتى لم يحصل الثواب، فقد حصل العقاب، لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف، لا يثاب ولا يعاقب.
ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن هذه الآية ظاهرها استفهام، إلا أن المراد منه تقرير الإنكار، والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار، وفي الآية قولان:
القول الأول: أن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تُسْتَر به العورة، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكثير من المفسرين.
والقول الثاني: أنه يتناول جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضاً أنواع الحلي، لأن كل ذلك زينة، ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلاً تحت هذا العموم، ويدخل تحت الطيبات من الرزق، كل ما يستلذ ويشتهيى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل أيضاً تحته التمتع بالنساء وبالطيب.
وروي عن عثمان بن مظعون: أنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: غلبني حديث النفس، عزمت على أن أختصي، فقال: مهلاً يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام قال: فإن نفسي تحدثني بالترهب. قال: إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال: تحدثني نفسي بالسياحة فقال: سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة فقال: إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك، فقال: الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك فقال: إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال: إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها. قال: إن المسلم إذا غشى أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعاً ورحمة يوم القيامة قال: فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال: مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: مهلاً فإن جبريل أمرني بالطيب غباً وقال لا تتركه يوم الجمعة ثم قال: «يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي».
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه، إلا ما خصه الدليل، فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله}.
المسألة الثانية: مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به، وجب أن يكون حلالاً، وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالاً، فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع، وهذا أصل معتبر في كل الشريعة، لأن كل واقعة تقع، فإما أن يكون النفع فيها خالصاً، أو راجحاً أو الضرر يكون خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى الضرر والنفع، أو يرتفعا.
أما القسمان الأخيران، وهو أن يتعادل الضرر والنفع، أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين، وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصاً، وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزائد نفعاً خالصاً، فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصاً، وإن كان الضرر خالصاً، كان تركه خالص النفع، فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً، فكان تركه نفعاً خالصاً، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة، ثم إن وجدنا نصاً خالصاً في الواقعة، قضينا في النفع بالحل، وفي الضرر بالحرمة، وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلاً تحت النص ثم قال نفاة القياس. فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس، لكان حكم ذلك القياس. إما أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام، وحينئذ يكون ضائعاً، لأن هذا النص مستقل به. وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص، فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس.
قالوا: وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافياً ببيان كل أحكام الشريعة، ولا حاجة معه إلى طريق آخر، فهذا تقرير قول من يقول: القرآن واف ببيان جميع الوقائع. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل: هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم؟
قلنا: فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} [البقرة: 126] والحاصل: أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة أما في الدنيا فإنها تكون مكدرة مشوبة.
المسألة الثانية: قرأ نافع {خَالِصَةٌ} بالرفع والباقون بالنصب، قال الزجاج: الرفع على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب، والمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون قوله: {خَالِصَةٌ} خبر المبتدأ وقوله: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} متعلقاً بخالصة. والتقدير: هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب، فعلى الحال والمعنى: أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية، والله أعلم.


{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أسكن حمزة الياء من {رَبّى} والباقون فتحوها.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات، فحرم أولاً الفواحش، وثانياً الإثم، واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه:
الأول: أن الفواحش عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية: أنه حرم الكبائر والصغائر، وطعن القاضي فيه، فقال هذا يقتضي أن يقال: الزنا، والسرقة، والكفر ليس بإثم وهو بعيد.
القول الثاني: أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحَدّ، والإثم اسم لما يجب فيه الحَدّ، وهذا وإن كان مغايراً للأول إلا أنه قريب منه، والسؤال فيه ما تقدم.
والقول الثالث: أن الفاحشة اسم للكبيرة، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً. والفائدة فيه: أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصور على الكبيرة وعلى هذا القول اختيار القاضي.
والقول الرابع: أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسماً لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور، إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة. والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك، وإذا قيل فلان فَحّاش: فهم أنه يشتم الناس بألفاط الوقاع، فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط.
إذا ثبت هذا فنقول: في قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} على هذا التفسير وجهان:
الأول: يريد سر الزنا، وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة، وما ظهر منها بأن يقع علانية.
والثاني: أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة {وَمَا بَطَنَ} الدخول.
وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر، لأنه تعالى قال في صفة الخمر: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وبهذا التقدير: فإنه يظهر الفرق بين اللفظين.
النوع الثالث: من المحرمات قوله: {والبغى بِغَيْرِ الحق} فنقول: أما الذين قالوا: المراد بالفواحش جميع الكبائر، وبالإثم جميع الذنوب.
قالوا: إن البغي والشرك لابد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم، إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيهاً على أنهما أقبح أنواع الذنوب، كما في قوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُوح} [الأحزاب: 7]، وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر، قالوا: البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول: البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً، أو مالاً، أو عرضاً، وأيضاً قد يراد بالبغي الخروج على سُلطان الوقت.
فإن قيل: البغي لا يكون إلا بغير الحق، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط.
قلنا أنه مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الإسراء: 33] والمعنى: لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق، فحينئذ يخرج من أن يكون بغياً.
والنوع الرابع: من المحرمات قوله تعالى: {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطاناً، وجوابه: المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة، ولا سلطان ممتنع، فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك، فوجب أن يكون القول به باطلاً على الإطلاق، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل.
والنوع الخامس: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وبقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كلمة إنما تفيد الحصر، فقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ} كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء.
والجواب: إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر، والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه، وإن حملنا الفاحشة على الزنا، والإثم على الخمر قلنا: الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها: الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنا، وهي المراد بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش}.
وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: {الإثم}.
وثالثها: الجنايات على الأعراض.
ورابعها: الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: {والبغى بِغَيْرِ الحق}.
وخامسها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: أحدها: الطعن في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله}.
وثانيها: القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، لا جرم جعل تعالى ذكرها جارياً مجرى ذكر الكل، فأدخل فيها كلمة إنما المفيدة للحصر.
السؤال الثاني: الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه، فصار تقدير الآية: إنما حرم ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة؟ والجواب: كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه، وعلى هذا التقدير: فيسقط السؤال، والله أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10